#سكتش

LIVE

أرى ولا أُرى …

في وسط تيار الحشد، كصخرة صغيرة على جدول الماء، رافضة الانصياع لتياره ، في تأمّـل سرمدي نحو السماء. طفل صغير يركض خلف أمه، شاب أنيق يهرول لأجلموعدٍ مع حبيبته، هرمٌ تعيس ذو ثياب بالية يمشي بتثاقل ويصطدم كتفه بكتفي اصطدامٌ خفيف، يبدي اعتذاراً ويكمل طريقه. أصوات أقدام ، وأحاديث يختلط بعضهاببعض فتكون سمفونية ضمن سمفونيات الحياة الرتيبة ، الجميلة في رتابتها. زعيق بائع البوضة تجاه المارة ، ترويجا لبرودة بوضته، يرد عليها نباح كلب أمام أحد المنازلكردة فعل تجاه اقتراب غريب أمام سياج المنزل. لوحة فنيّـة، تمتزج فيها الألوان امتزاجاً فريداً ، فكل امتزاج مختلف عن الامتزاج الذي يليه. تتخافت الأصوات، وتختفيالألوان ، شيئا فشيئا. وأصبح أنا وحدي على هيئتي، واقفٌ وسط التيار. وقد اختفى كل شيء. بقيت أنا والظلام، في قاع هوّتي، في وسط انهياراتي الداخلية، تعيس إنصح القول ، محطمٌ بالفعل. أقف على رصيف أحد المتاجر، رصيف قد مرّت خلاله في طريقها نحو وجهة ما. رصيف مقدس، يحمل طيف وقع أقدامها، الان وقد اختفى كلشيء ، لا احتاج حتى لإغماض عيني لاستحضار طيفها. طيفها حاضر ، لكنه مع التيار، أراه ولا يراني. آخذ نفساً عميقا من هواء الرصيف الملوث بدخان السجائر وعوادمالسيارات وحرارة المنازل . لأنني أعلم أن في هذا الهواء ، جزيئات عطرها ، لعلها تدخل صدري وتظل في رئتي فأصبح معها ولو بمقدار ذرة. أشمّها ولا تشمّنـي. أستحضرماضي ذلك اليوم الذي مرّت فيه على هذا الرصيف، استحضار متُخَـيّل ، فالخيال هو سلاحي الوحيد في بقائي صامداً ، استحضرها متخيّلا ، تسير على هدى ، ورأسهامنخفض، تنظر إلى خطوط طوب الرصيف. المتعرجة المليئة بالكلس، غارقة في أفكارها. أنظر بدوري إلى خطوط الرصيف الذي قدستْه بنظرة شاردة منها. أنزل على ركبتي،أتحسسه بأنامل يدي، وتجتاحني رجفة ألم ، تعاطفاً مع الرصيف، لأنه في واقع الحال مثلي، يرى ولا يُرى. أرجع إلى وقوفي ، مغمض العينين هذه المرة ، لتخصيب خياليأكثر فأكثر. أراها، بين الحشود، تسير مع التيار، أمد يدي لكنها لا تصل، أحاول مناداتها لكن لاصوت يخرج من حنجرتي، أصرخ لكن صوتي مكتوم، أحاول السباحة ضدالتيار، لكنـي لم أتحرك حتى قيد أنملة. أهرول وأركض، لكن المكان هو نفسه والرصيف ذو الخطوط المتعرجة لم يتغير . أتمزّق ألما على ألم، حتى في خيالي عاجزٌ ، أرى ولاأُرى. أفتح عيني ، فأرى الرؤية أصبحت ضبابية، أتحسس عيني بأناملي فأجدها مبتلة، خيالي ولّى ظهره وتركني، أصبح كحركة التراجع المرورية، مجرد تذكير إلى واقعيالمهشّم وإلى حالتي البائسة.عقلي يريد الخروج من هذه الهوة، وقلبي يأبى ورجلي لا تتزحزح، قضى الزمان أن أظل في هذا الوضع الأبدي، وسط التيار ثابت، حاضروغائب، قريب في بُـعدي ، وبعيد في قرُبـي، أرى ولا أُرى.

loading