#مسرحية

LIVE


الآم الشاب فرتر لغوته ..
لطالما شدني اسم غوته كونه من أعظم الأدباء. بدايةً قرأت له مسرحية فاوست ، وأي سحر كان ذلك ، أي جمال، بعدها تُيّمت بهذا الأديب ، كونه رفع أسطورة فاوست وجعل لها أجنحة ترفرف في سماء الخلود . ولشد ما آلمني أن كتابه الاشهر الآم الشاب فرتر ليس في متناول اليد، بحثت عنه لكن لا نتيجة مرضية. ولشد ماسعدت حينما لمحت اسم الكتاب وصورة الكاتب على رف أحد المكتبات.اقتنيت الكتاب سريعاً بدأت قرائته ، بفضول حول شكل العمل، لانني لم أقرأ وقتها عملاً أدبيا يخص تلك الحقبة الزمنية ، التي هي أواخر القرن الثامن عشر .
سعادة فرتر البريئة ، ورؤيته للجمال في الأشياء البسيطة. كيف أنه يسعد حينما يرى عطف أخ على أخيه الصغير، كيف يرى الأشجار في الحقول ، كيف أنه يأنس بمجالسة الناس البسطاء . إلى أن وقعت عيناه على شارلوته، حينها تأخذ اللغة منحنى حميمي شاعري تصاعدي، كيف أنس لهذه الفتاة، كيف أستحوذت على حواسه، كل ذلك أستحوذ على كليّ أنا. أيا أسفي، كم آلمني نظرات الاستنكار التي كان فرتر يُرمق بها حين يضع حكم القلب فوق حكم المنطق والقانون، كيف أسف بل ودافع بحمية عن ذلك الفلاح التعيس الذي عشق سيدته حد ان قتل الخادم الذي أتى بعده، كيف دافع عنه أمام الحاكم وكيف رده الأخير، وبأسى أذعن فرتر للحكم المحتوم . كم ذرأ الرماد عن جمرات الشفقة حينما رأيته يناقش ألبرت في قضية تشابه من يقدم على الانتحار جراء ثقل الهموم ونزيف الألم بذلك الذي اشتد عليه مرضه فسلب منه سلوى حياته. بداية اعترض عقلي على هذه المفارقة في التشبيه لكن ، حينما رجعت الأمر لقلبي ، وجدت المغزى ، كيف ان المنتحر كان همه وثقل أحزانه ويأسه وإحباطاته وفشله كان كل ذلك هو المرض الفتاك الي يرزح تحته المنتحر وهذا المرض بحد ذاته هو الذي أودى بحياته. رؤية كم كان فرتر يكره ضيقي النفوس الذين يتعكر مزاجهم لدى رؤية سعادة الآخرين، وكيف كان يضيق هو بنفسه حين رأى من يحب يرقد تحت الثرى وكم كان هو عاجزاً جراء ذلك الموت ، وكم أضنه انه لايستطيع فعل شي ، ألمه تجاه العجز ، كل ذلك بعث شيء من الأمل في قلبي.
رؤيته يتألم جراء المجتمع الذي ينظر للطبقات قبل الأخلاق وقبل الجوهر ، يأسه من قسوة هذا العالم وأكثر من ذلك ، ألمه الذي أضناه وحطم صدره ، ألا وهو كل شيء متعلق بلوته. حينما وصلت الرواية لهذا الصدد، بدأت اللغة تشتد حميمية، شاعرية، مأساوية الى حد قلما رأيته في رواية أخرى. أفضل مشهد برأيي، حينما يقف فرتر أمام لوته، حينما تتضرع اليه أن يضبط نفسه، أن يقلل من زياراته، أن من غير الممكن أن يبقى الأمر بهذا الشكل. أحسست وقتها أنا كقارئ، أحسست أنني أنا فرتر، ولشد ما آلمني حديث لوته، كان حديثها أشبه بالخناجر الموجهة الى قلبي . أما أكثر مشهد مأساوي هو اللقاء الأخير، حينما جلس فرتر يقرأ بحزن أشعار أوسيان، أيا أسفي، ستظل تلك الأوراق، تلك المقاعد ، ذلك البيانو، والستائر المسدلة بتراخي على نافذة شهدت الكثير وظلت صامتة. ذلك المشهد حينما بكى فرتر وبكت لوته وضمت يديه الى قلبها ، حينما شعر الإثنان بتعاستهما . سيظل ذلك المشهد مطبوعاً في قلبي .

هناك بعض الأخطاء المطبعية لن أتعرض لها، كون المؤلف والمترجم على حد سواء ليس لهم أي علاقة بهذه الأخطاء وإنما عبء ذلك يقع على دار النشر على حد علمي.

شكراً عظيماً للمترجم نجم والي، فقد جعلني أحلق مع النص وحميميته، شاعريته، مأساويته، حزنه. شكراً لأمانته في نقل النص من اللغة الأصل “الألمانية” الى العربية، شكرا لمجهودة في ذلك الصدد، فإني أرى أنه أبلى بلاءاً حسنا.


فاوست، تحفة غوته العظمى. هي حكاية شعبية كانت شائعة خصوصاً في ألمانيا، وعلى مر الأجيال كان يُضاف لهذه الحكاية بعض التفاصيل والمشاهد. كتبها كعمل أدبي كثيرون ، إلى أن أتى غوته مأخوذاً بهذه الحكاية، وأخذ على عاتقه ، إعادة كتابتها كنص مسرحي. ونجح في ذلك أيما نجاح. صنع من هذه الحكاية منحوتة فنية ، تبث الحياة فيمن يراها أو يقرأها ، حيث ينحني بعد ذلك إجلالاً واحتراماً لا لأجل المنحوتة فقط، بل ولأجل الناحت أيضا. لأن كتابة نص مسرحي، يعتبر من أصعب أنواع الكتابة الأدبية، لأنه يعتمد بشكل أساسي على بناء الحوارات، واستخدام لغة محكمة، عذبة، تشد المشاهد وتجعله مأخوذا بروعة المشهد. وهذا مانجح في فعله الشاعر العظيم يوهان فولفغانغ فون غوته.

فاوست ، الدكتور الحكيم، الذي ظل يسعى وراء العلم ، باحثا عن الرحيق الذي سيروي عطشه ، إلى أن وصل للقمة ، لكنه لم يقنع أبداً أبها، فكان يريد الذهاب فوق القمة، ومابعدها. هنا حيث تأخذ الأحداث مجراها، حيث يعقد مع الشيطان عقداً ، حيث يحصل فاوست على مايريد، ويحصل الشيطان في نهاية الأمر على روح فاوست. فاوست ، هو مثال الروح الساعية للكمال. الروح التي لا ترتوي أبداً ، تسعى وتسعى وتموت ساعية . نرى في هذه المأساة العظيمة ، مراحل نمو هذا المسعى ، من الملذات الدنيوية الى المثاليات . ما يميّز اسلوب غوته ، هو الاسلوب العذب ، واللغة الرائعة ، والوصف الذي يضعك في منتصف المشهد ، تلتفت يمينا فترى فاوست ويسارا فترى مفستوفيلس

. وينبغي الاشادة أيضاً ، بالمترجم العظيم عبد الرحمن بدوي ، في حفاظه على عذوبة الاسلوب حينما نقله الى العربية.

loading