#اقلام

LIVE

على قارب التيه ..

أستلقي متأملا عمق الفضاء، أعد نجومه ، رابطا بين كل نجم واخر بخط وهمي، علنّي أرسم لوحة ، أو أخرج بشكل منطقي من عشوائية تناثر تلك النجوم المتوهجة في حلكة الليل. تائه ، على قاربي في وسط الـلامكان. فقدت مِجدافي ، فلم أعد أبالي، فقدت كل فرصة للرجوع للوطن ، فأصبحت غربة البحر وتيهه موطني . هادئ هو البحر ، وفي تراقص قاربي الهادئ على سطحه يتجسد صخبه. صخب يضفي عمقاً على هدوئه. غامض هو البحر ، وفي غموضه يكمن سحره ، كم من تاريخ فُقِد في قاع بطنه ، كم ابتلع من قبائل وأمم ، كم أفرح وكم أحزن.

تائه أنا، و على سطحه تأخذني الامواج الصامتة يمنة ويسرة ، كتهويدة لطفل باكي ، هل أتألم ياترى ؟ مالي أرى البحر في عظمته ، يطبطب علي ؟ أحول نظري من سمائي الصامتة المتلألئة ، الى صدري ، فأراه ملطخا بالدماء، مهشّم ، دماء حمراء يتخللها سواد هنا وهناك ، دماء جديدة ممزوجة بأخرى قديمة تجلطت بفعل شكواها للهواء. ألهذا السبب أرى البحر يشفق علي؟ هل مزِّق صدري الى الحد الذي تمزقت معه اعصابي وفقدت بذلك كل إحساس؟ ربما هذا ماقد حدث. لا أقوى على الحراك ، شبه ميت ان صح التعبير ، وعلى صدري لوحة ، تمتزج فيها الدماء امتزاجا بشعاً ، وفي تلك البشاعة تتجسّد سطوة وجمالية الفن. صريعٌ يحتضر في تيهه . وحدي ، أنا والبحر ، في خلوة أبدية ، يشكو صدري له ويطبطب هو بدوره عليه، وانا في حيرة من ذلك كله. صامتون ، فالكلمات اعتذرت منذ وقت طويل ، اعتذرت عن ترجمة ماكان يدور بيننا ، لثقله ، ولـلانهاية هوته ، واعتذرت خوفا من ان ترزح بالألم ، فلم تقوى الحروف على التماسك ولا الكلمات في ان تترتب وتعطي وصفا، تعبيرا او ترجمة لما كان يدور ، بيني وبين البحر . وفي صمتنا السرمدي سمعت صوتا ، كان حديثا هو الاخر ، عزاءً، بل أنيناً . اهتز قاربي في اضطراب ، ومن ثم تطايرت علي قطرات الماء في صخب ، فهمت عندها ان سبب ذلك هي اذيال الحيتان . كانت تتلوى ، تئن ، وفي حركة تنضح بالألم تضرب بأذيالها الضخمه سطح الماء. أتت تشاركنا العزاء ، فلم تستطع تحمّل مأساتي ، فتحول عزائها أنينا ، وتحولت بادرتها الطيبة في العزاء ، الى ألما تعاني تحت وطأته. تسبح ببطئ تحتي ، تحوم وفي خضمّ هذه المأساة أراها تؤدي شعائرها باكية .


أنيــن ، يهز أعماق البحر ، ويحطم أعماقي ، أسمعها بوضوح وقد تجلى في أنين حيتاني جوهر الحزن ، وحقيقة المأساة. تئـن بنغم غنائي ، فيشاركها البحر بموجه التي تحدثه هي بضرب أذيالها، يتخلله إيقاع تلاطف موج البحر بقاربي. والمايسترو لسمفونية الحزن هذه ،هو اختلاجات صدري المحتضرة .


على قـارب التـيه، في وسـط الـلامكـان ، وعلى تهويدات البحر الهادئـة وأنيـن الحيتان المتألـمة ، أتأمل سماء المساء ، صامتاً ، متألماً ، غير قادر على الشكوى أو الأنين ، لاحول لدي ولا قوة ، وفي خضمّ هذه المأسـاة ، وبين فصول هذه السمفونية ، أُفكِّـر ، نعم ، وكـم فكّرت ، ونسجت ، سيناريوهات عديدة، كم رسمت من لوحات ، كم قاسيت من غصّات ، كم تألّمت من مرات ، كم كتبت وشطبت ورتبت ، إلى أن تاه كل شيء عني وضاع ، وبقيت وحدي مع الفكرة ، أفكر ، نعم ،أفكر فيك، أفكِّـر فِـي العـدم.

الأيام - طه حسين

بدايةً ، شد انتباهي كثيراً اسم طه حسين ، الى أن عقدت العزم على قراءة عمل له بمثابة السيرة الذاتية. ماصدمني بداية الأمر أنه قضى حياته كفيفاً ، وأن أسمه ليشاد به في مجالس الأدب. فانتابني فضول وشك حول الوزن الأدبي لعمله ، كونه خالي من الوصف المكاني التصويري بحكم كونه كفيفاً. ولشد ما اعتبرت موقفي في الشك سخيفاً حين قرأت الأيام. فقد جعل من تحليله لنفوس الاشخاص، الروائح، المحيط وانتظام الاصوات تارة وتداخلها تارة أخرى، عذاباته ، ومسراته ، كوامن نفسه، حواسه الحادة في محيطه الجالس فيه ، كل ذلك خلق لوحة فنية جعلتني مشدوها من روعتها وتميز ألوانها وخطوطها وتضاريسها . كان طه حسين يقول ، للظلمة صوت ، لكثرة ماشدني هذا التعبير ، وانا ارى ان دلت هذه الجملة على شيء فإنها تدل على عمق الشعور بالظلمة. أما عن حديثي عن لغة الرواية فمن أكون ، أمام الدكتور الذي تذوق والتهم وكرع من مائدة اللغة ، فتراها سهلة عذبة في الاحداث التي تمتلأ بالغبطة والمسرة، بينما ترها حزينة توقع في النفس أسى ومرارة وتعاطف في تلك الاحداث التي ألّمت وأمضت الكاتب، فوفق في ذلك أيما توفيق، ونجح في ذلك أيما نجاح.

ولإحقاق الحق، هناك بعض الجمل المتكررة، والتفاصيل الغائبة التي من شأنها ان تعمق ترسب المشاهد في نفس القارئ، ففي بعض فترات الرواية كتلك الفترة في بعثته لفرنسا، جرت الاحداث على عجل ولم أُمنح الوقت الكافي لهضمها على خلاف أحداث الريف والأزهر ، وأنا أرى أن للأحداث في فرنسا أهمية لاتقل عن الاحداث الاخرى.

نهاية ، كتاب الأيام لطه حسين مبدع السيرة الذاتية، أخذني في عوالم وازمنة لم يكن بإمكاني السفر لها من دون قراءة الايام وجعلني انظر لكثير من الاشياء بمنظور مختلف ، واكثر عمقا. فشكراً للعلي الأعلى ، على هذه النعمة العظيمة.

انطـباع ..


على سِـياج المينَـاء ، أجلس متشبثا به بكلتا يدي ، في وضعْـية غير معهودة مـني كون كلٌ شيءٍ فيّ يصرخ بالرتابة . متأملاً دموية الأفق في الغروب ، ممزوجة برفق برمادية بداية المساء، وفي امتزاج الوان المساء تتدخل عوادم المصانع في الافق البعيد ، لتعطِـي تشويهاً للوحة الفنية التي تمتزج فيها ألوان الحياة البديعة ، والحزينة شيئاً ما ، وإن جاز لي القول الكئـيبة. فلِـيس بالضرورة ان يكون الابداع مبهجاً.

وفي غياب النور المتدرج ، تختـفي التفاصيلُ شيئا فشيئا ، فالتفاصيل الان لم تعد مهمة ، وانما المهم هو الصورة العامةً. مجسمات سوداء، توحـي بسيناريوهات عديدة ، منها صاحب القارب والمسافر ، يتنقلون بين أجزاء الميناء ، برفـق ، أراه يجدف مرة ، ويترك حركة القارب الناتجة عن تجديفه ، فتستمر حركة القارب لوقت طويل نسبيا بسبب ركود حركة الماء، أرى النعاس يدغدغ جفن المسافر ، والرتابة والهدوء تغلب قسمات صاحب القارب. كم من العظيم أن أرى كل ذلك في مجسمات سوداء بعيدة ، أو خـيّل إلي ذلك بسبب الجو العام لما أتأمله. أهو حقيقي أم لا ، وما الحقيقة ؟ وما وزنهـا في عينـي تافـه ، خسر حلْمـاً كان أكبر منه . يتأمـل المساء بجسده وروحـه ترزح تحت ثقل الألـم ، وصدره يسحق في قاع هوة المستحيـل والـلاممكـن. يسـحق بشكل مستمر وبوتيرة متاصعدة ، ودمائه تزين قاع هوّتـه بأسلوب تشكيلـي . مختنقـا بالدماء ، متنفسا ضبابـها وأبخرتـها ، وفي بوتقـة الألم هذه ، عـزّ على الأكسجين ألّا يكـون مشاركا ، فأتـى مؤكسداً تلك الدماء جاعلا من الأحمر أسوداً ، مضفيا رمزاً ، طابعاً ولونا جنـائزي ، ربما معزيا أو في الألم مساهما.

أحوّل نظري إلى انعكاس شمس المساء الدامية على سطح الماء الراكد ، تتراقص بلطف ، مشوهـة الصورة . درسٌ مفاده أن أحلامنا دائما ماتكون مثـالية براقـة ، وحينما نحاول إسقاطها في الواقع ، حينما نحاول تجسيدها وإخراجها للعلن ، تأتي مشوهــة ، تماماً كانعكـاس شمس المساء على سطح مياه الميناء. أصوات بعيـدة ، مختلطـة متشابكة ، ضوضاء المساء ، يتخللها بين الحين والاخر صياح النوارس، يحلقون حـولي ، وفوق صفحة البحر ، ويتجمعون فوق أسطح المباني القريبة . ربـما هكذا رأتهـم عيني ، لكن تحدثًا عن روحي ، لم ترى سوى غرابيب سود ، يعزفون سمفونـية الموت ، بأصواتهم البشعة ، محلقيـن فوق رأسي ينتظرون بفارغ الصبر سقوطي، كي أصبح غذاءً لأجسادهم السوداء، وقودا لفرقـة الحزن والمأساة . رسُـل الموت ، تحتفـل حماساً ، لأجل وليمتهم الجديدة ، والمكتنـزة باليأس ، الممزقـة بالألم والموشحة بالأسى .

مجسمـات سوداء ، لقوارب متناثرة هنا وهنـاك ، على مياه الميناء الراكدة ، كل يصبوا لغايـة معينة ، جميعهم يناضلون لأجل شيء ما، لديهم سبب وغاية . يطفون بلطف ، وفي حركة رتيـبة يتحركون ، فالرائـي يحسبهم جمادات ، لكن لو تأمل قليلا لشـده لشدة بطئ ورتابة حركة قواربهم . مسافر ودليل ، عاشق ومعشوق ، صياد ، مختلفون ، لكنهم واحداً في نضالهم ، مجسمات سوداء ، بعيدة ، تذكّـرني بنضالي العقيم ، بقتالـي الضعيف ، بضعفـي وقلـة حيلتي ولا شـيئي، بعيدون ، منشغلون بأنفسهـم عن غيرهم . فمـن يريد أن يلـتقي عدمـا ، أو يرى مأساة ، أو يشعر حزْنـاً في دنيـا المباهـج. عسـى أن أكون جزءاً من هذه اللوحة ، ربما أنا بالفعل فرد أو عضوا فيها ، كونـي أتأملها ، كونها حيـة في عيـني ولها وجـود في كيـاني؟ عبـثاً، فكل لون ، كل تجسيم ، كل شكل ينظر إلـي كما ينـظر إلـى الـلاشيء، الى العدم ربما ، تمـاما كما تنظر اللوحة إلـى من ينظر إليهـا . فاللوحة تعيش بداخل من يتأملها ، لكن من يتأملها حتما لايعيش بداخلها ، إذ أنها حقبة جامدة ، توقف في وجه استمراريـة وسيادة الزمن ، كأنها رفـض لماهيـته . عـلّنـي أكون لوحـة ، وهل هنـاك لوحـات ، أو فنـانين يجسدون عـدما؟ عبثاً فالعدم هو الـلا تجسيد ولا جسد ، الـلا حياة ، الـلاشيء ، هويـتــي.

وفي عمق الافق ، تختفـي ألوان المباني وأعمدة المصانع ، فتحال ألوانها كلها إلى رماد المساء. تمـاما كمل تفعل الهشيم في كل شيء تلتهمـه ، فتحيل مدن وقرى ومعالم ، إلى ثرى خفيف ، رمـادي . لكنـها وفي سطوتها استحالت أن تحول أحلامـي رماداً. صحيح أنها رمدت كل شيء حيّ ينبض فيّ ، لكنها عجزت أن تحيل لونـي رماداً. فأفكاري ، وأحلامـي ، وجسدي وروحـي ، جميعهم انتفضوا ، في لوحة ثوريـة ، غاضبين ، يحركهم الألـم ، رافضين فكرة أن يحالوا الى رماداً يدل على عجزهم ، فشلهم ، تفاهتهـم . أبوا في سطوة الثورة كل شيء ، وابتغوا السواد . السواد كان غايتهم، كانوا يصرخون به حقاً من حقوقهم على الرماد ، فكان شعارهم و فكرهم .هاتفين ، ويداً بيد صارخين واليأس يحركهم ، فالنصـر للسواد عدمـا - على الرماد أثراً . لم يتحملوا فكرة وجود أثر كاالرماد ، يدل على فشلهم ، عجزهم ، يذكر الأجيال القادمة على صغرهم وتفاهتم أمام الكون العظـيم ، فأصروا على السواد عدمـاً ، متخذينه نصراً وغاية ، ففي سطـوة الألـم ، وتحت شدة المعاناة ، وفي كون الحيـاة مأساة ، يكون العدم غايـة ، هدف ، محطة نهاية ، وبل وحـقٌ يُطالـب به كل من خسـر كل شيء ، وانسحق تحت كل شـيء وتألم وعانى بكل شـيء ، فتكون غايته ومنتهى أملـه هو الـلاشيء.

المحاكمة - فرانز كافكا


تعرّفت على كافكا، من خلال كثرة الحديث عنه في الوسط الأدبي. في كونه سوداوي، وانطباع مايكتبه بطابع كابوسي. شّدتني بطبيعة الحال هذه الأوصاف. فاقتنيت مجموعة لأعماله الكاملة، ومن خلال قراءة جزء كبير منها ، شدهت لأنها مميزة حيث أني لم أقرأ شيئا مماثلا. تتميز بكونها عبثية ، أي أنك تضع موقفا أو مشهداً في غير مكانه ، خالقاً بذلك مشهداً جديداً فريداً ومزعجاً بعض الشيء كون المرء لم يعتد أبداً على رؤيتها بهذا الشكل. وتتميز نصوصه بأنها رمزية وسريالية يمكن أن تؤول بأكثر من زاوية. في المحاكمة ، هي في نظري أرقى وأفضل ما قرأت لكافكا حتى الآن. ولغريب الأمر ، كان كافكا عادة في قصصه القصيرة قليلا مايركز على الحوار أو الجدال ويسهب في الشرح ودواخل الشخصية ، أما في المحاكمة فقد كان متزنا بين هذا وذاك. رأيت في نصه كيفَ أن الإنسان يُسحق تحت سلطة أعلى منه ولا يستطيع حتى الوصول إليها بل والاستعلام عنها، بل لايحق له ذلك. أتّهم على حين غرّة يوزف ك غير مدرك سبب الاتهام وطبيعته ، ويظل هكذا حتى النهاية المأساوية. بداية يحاول الدفاع عن موقفه، كونه بريء ولايحتاج إلى حماية إذ أنه لم يرتكب ذنبا بالأساس. لكنه ينحدر ، بعدما يعلم تدريجيا عن سوء وضعه، نحو محامي على توصية من عمه .فظل يراجع المحامي، حيث انه في كل جلسة ، يسهم في شروحات عن سير المحاكمة الغامض وكيف يجب ان يتصرف المرء ناحيتها، ولاجدوى مذكرات الدفاع ولا جدوى المحامي أصلا ، لكنه في الجانب الاخر مهم جدا اذ انه لديه الكثير من المعارف الذين من الممكن التأثير عليهم ، لكن قد يكون ذلك غير فائدة احيانا. الحوار كان طرف واحد وهو المحامي و ينطوي على كثير من الشرح والإيحاءات القائمة على أنه متابع لموضوع القضية ، وكل هذه الاسهامات يُستنتج منها شيئا واحداً ، عدم الجدوى، آمال متناقضة متصلة كجديلة تفضي الى نهاية واحدة ، المجهول ، وعدم التأكد ، وكابوسيك اللا نهاية ، كدرج طويل من اليأس لانهاية له . يتخذ يوزف بعدها موقفا مشابها بالمحتالين ، فيتصل ببعض الأشخاص الذين قد يكون بإمكانهم التوسط له أو مساعدته بحكم معرفتهم العميقة بمجريات التحقيق، وقد يكون لهم التأثير على مجريات المحاكمة. لكن ذلك كله ينطوي على مجرد مماطلة ، مماحكة غير مجدية ، اذ ان سير المحاكمة والقاضي القائم عليها غير معروف . ولا يجوز أن يتم التعريف به أو بالقضية. فيستسلم يوزف في النهاية ، مسلما بالأمر وان ابدى ممانعة كأمل أخير ، كشمعة على وشك الانتهاء، بعدها يدرك تفاهة موقفة في ممانعة هذا التيار . فينّفذ الحكم به ، في منطقة نائية، بالقرب من مقلع حجارة ، بدلا من غرفة اعدام ، وفي عبثية المكان هذه لمسة كابوسية، طعنا ، ككلب على افتراض ان الخجل يعيش بعده.


المشاهد ، التي رسمها كافكا ، مشاهد محكمة ومراجعين ، لكن انتشل وضعها المكاني الى مبنى ذو غرف للإيجار حيث دوواين المحكمة تكمن في العلية وتتميز بممرات ضيقة وجو خانق. بهذا التشكيل جعل كافكا من المشهد كابوساً ، حيث جعل الشخصية تشعل بالاختناق وانها حبسية ذاتها على الرغم من كونها حرة. مشهد الجلاد مع الحراس وتنفيذ حكم العقوبة بهم في غرفة مخزن البنك، عبثية المكان هذه، وكونهم موجودين حتى اليوم الثاني على نفس الشاكلة من دون اي يعلم احد بهم سوى يوزف ، تجعل من المشهد كابوسا حقيقيا . وقد أبدع كافكا أيما إبداع من هذه الناحية.


نصوص كافكا كما سبق ان نوّهت ، رمزية . خصوصا في مشهد وفصل الكاتدرائية حيث يكم جوهر الرواية. وفي قصة الحارس مع الريفي. حيث ان هذه القصة مثل ماهو موّضح تؤول بأكثر من زاوية ، وكل زاوية لابد ان تمحص في تؤويلها مايترك انطباع لدى القارئ، انه حيثما وجد المقصود يعود مرة أخرى وينظر له من جانب آخر ، وهلمجال كمتاهة لا نهاية لها. كأن في حوار الكاهن مع يوزف ، عن هذه القصة ، هي الرواية في جوهرها .


مايهم ، هو علاقة المرء بنصوص كافكا، وليس علاقة كافكا بنصوصه، ففي الأولى نحن قراء وفي الثانية مجرد صحفيين فضوليين.

غرابيب سود…


رحلت ، شققتُ عباب البحار ، عانقت سحُب السماء ، قطعت مسافات طويلـة تحت الشمس ، وعلى الرمال الحارّة . ظللت أسافر ، إلى أن فقدت سببي ، ضاع مني السبب ، وظللت أسافر ليس لدي فكرة عن سبب هذه المشقة ، لكن كانت كل خلية، كل عظلة لدي وكل كياني يصرخ يطلب مني الاستمرار، يبدو كهروب أكثر منه كسفر . أيا أسفي ..

انقشع شيءٌ من الضباب الكثيف ، لمحت ضوءًا كئيباً ، يئن في ارتعاشه، أحسست بألم فضيع ، وكأن جسمي صحَا من ثوررة التخدير وبدأت ندوبي تستبد في ألمها . حولت نظري إلى قدمي فوجدتها مسوّدة ، دامية ، يداي أصبحت ثقل زائد متصل بجسدي . كنت أنظر الى الامام فقط واسير مسافرا غير عابئ بي ، أبتغي هرباً ، ملجأً ، فكان ملجئي هو سيري السرمدي.

رياح الجنوب عاتية ، أرعدت وعصفت بي ، انقشع جلُّ الضباب ، وحل الظلام ، ظلام يتخلله ضوء القمر فيزيد في حلكته . ها هنا ، أضحك وكم ضحكت على نفسي ، تمزّقت روحِـي ، يمكنك أيتها الروح البائسة الهرب أينما تريدين ، يمكنك أيها التعيس أن تكمل سيرك السرمدي ، فعباب البحر الذي شققته لم يكن سوى فيضان على الخربة التي تتجوّل بلا انقطاع فيها ظنا منك انك تسافر، لم يكن سفرك سوى هربَاً . تعيس انت حتى في هربك ، تهرب منها إليها . وسحب السماء التي تدعي عناقها لم تكن سوى رياح رملية حلّت عليك وجعلتك والخربة واحداً. والمسافات التي قطعتها تحت الشمس لم تكن سوى تيهان ، تجوال بين حدود وأزقة الخربة ، تحت لفحة الشمس . خَـربة في وسط الامكان ، في نهايات أعماق الذات، أمتدت جذورها عميقاً بداخلِي إلى ان تلاحمت معي وأصبحت عضواً أساسيّا حيويا بداخلي. خـرابة ، تفيـض بالموت عبقاً ، خالية من أي روح سواي ، ان صح مسمى الروح عليّ، خرابة متألّقة، حيث لا شيء يشبهها ، مسرح وعلى خشبته تؤُدى مسرحية ساخرة ، تُـذكرِني بتعاستي وبوهم هروبي، فتجعل في أدائها المسرحي المتقن من الوهم حقيقة ، مسرح في سقفه تعزِف سمفونية الحزن ، تؤديها كوكبة من غرابيب سود ، تحلّق بشكل دائري فوق رأسي، تحليق سرمديّ أيضاً ، تنتظر بلا كلل ولا ملل سقوط جسدي حيث أن روحي قد سقطت بالفعل في هاوية مظلمة.

خـرابة ، يؤلمُـني منظرها ، ويخنِقُنـي عبقها ، جرحٌ قديم يأبى ان ينضب ، فيستمر بالنزيف ، نزيف أبدي ، لعنة الألـم ، لعنة الذكرى . صورتك في كل مكان ، و صوتك هو الشيء الوحيد الذي أسمعه ، ذهبت مادتك حيث أنها لم تكن بالوجود أصلا ، وبقيت فكرتك ، بقى طيفك ، وخيالك . أخذوا جميعهم يضربون بيد من حديد في ذاتي ، ثباتي ، ويزيدون في خرابي ، أيُّ وهم أنا فيه ، لم أراك ولم أسمعك ولم أشمك حتى ، وأتلوى ألماً بكل شيء يحمل ماضي حضورك ، وأتقهقر إن سمعت انسجام احرفك في مكان ما. وسط الخرِبـة أنا ، ها هنا أعيش ، وهنا أهرب ، وهنا أستذكر وأبتسم وهنا أحزن وأبكي ، هنا أشق عباب البحر وأعانق السحب وأمشي تحت الشمس تلفحني ريحها الحارة ، هنا أستنشق عبق الموت ، هنا تؤدى المأساة هنا ، التراجيديا والكوميديا على مسارح الخربة والحضور أنا ، أنا من يقوم مصفقا بعد انتهاء العرض ، ها هنا أستلقي باحثا عن نهاية الـلانهاية، آمِـلا بالمستحيل ، وفي بوتقة الجنون تُصهر كل إرادة بالخلاص، وسمفونية أسى تعزفها فوق رأسي كوكبة من غرابيب سود.

عالم بلا خرائط . للأديبان العظيمان ، جبرا إبراهيم جبرا ، وعبد الرحمن منيف .


عمل أدبي فريد من نوعه ، معقد متشابك ، بقلمين من عالميْن اثنين . في العادة أن الروائي يكون حاكم روايته والحكام بطبعهم تأبى أنفسهم المشاركة في الحكم . فتوقعت أن أجد تناقضا وحيرة وضبابية في هذا العمل ، وقد وجدت بالفعل، لكنني وبعد الاستمرار وجدت ان هذه الضبابية والتناقضات كانت لبنة أساسية لإكتمال هذا العمل العظيم.

بداية العمل ، يكون القارئ أمام كلمات ومشاهد غامضة ، متاهات ، يعتقد انه يعرف شيئا او اثنين لكن مايلبث ان ينتقل للفصل الثاني حتى تنهار كل اعتقاداته . ومن خلال الفصول الاولى نحصل على جزء من صورة علاء الدين نجيب قبل نجوى. نستطيع ان نقسم الرواية الى قبل نجوى ، زمن نجوى، وبعدها.

بداية لم أجد في هذا العمل أية “ميزة ” تجعله مختلفاً. وسرعان مابدلت رأيي بل وجدته سخيفاً نوعا ما. وذلك حينما بدآ الرائعان يتحدثان عن عمورية. وهنا تذكرت أديب ايرلندا العظيم جيمس جويس، حيث كان كل ماكتبه يحدث في مدينته التي احبها وكرهها ، “دبلن”. وهنا تجري الاحداث في عمورية، لكنها ليست عموريتنا ، بل هي عمورية الكاتبان، عمورية غير الواقع ، عمورية عالمهم ، عالمهم الذي بلا خرائط.

وجدت اجزاء من نفسي في عمورية، فلي بلدة تشبههاها الى حد كبير، فأثارت شجوني سمفونيات الفرح والحزن والألم والمأساة المتعلقة بهذه المدينة . ولم يتورعان الكاتبان عند هذا الحد من المفاجآت، حيث أدخلا شخصية حسام الرعد ، في داخل كل منا يوجد حسام الرعد، المحب للحياة ، الجامح ، السعيد، الشجاع الا مبالي، الخيّال عاشق خيلته لمعه. وعلاقته بالمثاليات وصدام الواقع ، ورغبته في تغيير عمورية وارجاعها الى سابق عزها، لكن كلامه وافكاره تظل تتردد بين جدران قلبه وخيالاته، حيث لاتكاد تصل إلى أراضي الفعل. وهنا يبرز أدهم أخ علاء الدين، والذي يعتبر المحرك والفعل لأقوال وأحلام خاله، حسام.

الشخصيات وبناءها قوي ، على الرغم من ان بعضها قد يبدو ضبابي بعض الشيء، كخلدون ، ونبيل وصبا.

وبعدها تبرز نجوى، وعلاقتها بعلاء الدين ، فنرى الحب والجنون والشبق والتحدي لكل وازع ولكل عقبة وتقليد. ومن خلال نجوى يبرز لنا كم هو محطم علاء، وكأن نجوى أخذت تكسر قشرة علاء الدين الخارجية والمتيبسة، فتظهر بعض أجزاء نفسه الحقيقية ، تظهر صور المأساة في ولعه بنجوى ، صور الوحدة والبؤس، وكأن نجوى هي ذاك المسكر، الذي ما ان تتناوله حتى تطير في عالم الاحلام وما ان تستفيق منه حتى تدرك بؤسك وتزداد بؤسا على بؤس. في نهاية الرواية يظل الحدث الاهم موضع شك ، غير متأكدين حول الحقيقة، فرأيت ان هذا اشبه بكرم بالغ من الروائيان حيث تركا لنا ان نقرر ماهي النهاية. بما ان نجوى ذات كبرياء ، تعشق التملك والاستحواذ، وفي خضم المشاكل بينها وبين سليمان العامري والميراث، وبين الجنون والوهم والانتشاء في آخر مشهد ، وحينما رأت نجوى علاء ينساب بين أصابعها كالرمل ، وبين كلماتها اوخصوصا"الموت بين يديك أمنية". وأيضا موقفها الشاذ ذلك اليوم، يبدو أنها كانت تضحي بكل شيء في سبيل هذه اللحظة ، والتي بدت لي كالعشاء الأخير . ربما بعدما التقت بلخدون ، رأت أنه لا أجمل من ان تنهي حياتها باختيارها هي ، في تلك الدار والتي تحتفظ بين جدرانها العديد من مشاهد الخيبة والمآسي، ولإضفاء بعض الدراما بدت كمن أُعتدي عليها ، وربما كانت رسالة لعلاء الدين بأنها اذا خسرته خسرت كل شيء . أو ربما قتلت بعدما هددت من قبل سليمان العامري حول موضوع الميراث ، أو ربما على يد خلدون وأعتقد ان هذا غير وارد وذلك من خلال الصورة النفسية التي كوناها عنه من خلال هذا العمل. أو ربما بين حقيقة والوهم ، وتداخلهم ، ربما كان علاء هو من قتلها .


نهاية، أرى هذا العمل من الأعمال العظمى التي قرأتها، مليء بالاسئلة الوجودية والفلسفية والحيرة والتناقضات والفرح والشبق والجنون واللذة والألم والمآسي. ففي هذا العمل رأيت البحث عن وليد مسعود ، ورأيت أيضا شرق المتوسط. كأن الكاتبان كانا يتنافسان بإبراز أفضل مالديهم ، فإذا ظهر أحدهم بمشهد قوي تحداه الآخر بمشهد أقوى حبكة أو إحكام، ومن خلال تشذيب هنا وهناك يبقى الأفضل ليُضع في هذا العمل.

image

خلال ضباب الدماء، اشق طريقي . متبعاً إحساسي ، حيث الرؤية تقف عاجزة عن تتبع أي طريق ينبغي اتخاذه. أتابع المسير ، وقلبي يضطرب مع كل خطوة ، يضطرب مع فكرة ان هذا الطريق لانهاية له ، يضطرب لفكرة أنني في متاهة أبدية ، حيث لا خروج، لا توقف، ولا رؤية. منزوع الادراك والارادة. سرت إلى أن تمكن مني التعب، تعبت من نفسي ومن ضعفي ومن رطوبة الضباب الذي ملأ صدري بروائح الدماء، دماء لا أعرف مصدرها، كم يؤرقني ويمزقني ان لا أعرف مصدرها. لا أعرف كم مضى على حالتي هذه، بدأت أشتاق الى نفسي، الى إرادتي ، وحواسي، بكيت حيث لم يتبقى لي سوى البكاء، هو الشيء الوحيد الذي لم يُنتزع مني. سقطت على ركبتي باكياً، وخلال دموع البكاء التي تضفي رؤية حالمة وسرابية للواقع، بدأ الضباب ينقشع، وأبصرت الصورة. جثث، مترامية هنا وهناك، بعضها مسحوق تماماً، والاخر لازال يحتفظ ببعض أطرافه، بينما الآخر لم يترك سوى الدماء، حيث تكون هي الدليل على وجوده. كانت الجثث تحمل صورتي، وجسدي، أرى نفسي مقتولا، هنا وهناك، بين الأزقة وعلى الرصيف، فوق السطوح وطافياً بتعاسة يجرفني تيار المجارير. ترى مالسبب؟ مالذي فعلت بذاتي؟ ماذا فعلت نفسي بنفسي؟ وخلال تساؤلي، نهضت جثة تنزف دماً من عينيها وأخرى تنزف من فمها، وثالثة تنزف من قلبها، ورابعة وخامسة، ثم سادسة وسابعة، جميعهم يتجهون نحوي، ويضموني واحدا تلو الآخر، وخلال هذا الطقس المقدس، نقلت جثث الأنا مختلف الاسباب التي قتلتني. كانت هذه تشكو نسياناً أصابها بسهم في صدرها، وأخرى تبكي حزنا سحقها وأخرى تصف قتالا خاسراً مع اليأس طرحها أرضاً، ورابعة تريني آثار اعتداء عنيف من الكآبة عليها، كل أنا تصف وتشكوا لي سببا. الى ان انتهت آخر أنا ، مشيرة بأصبعها إلي، قائلة أنت سبب كوني على هذا الحال، أنت هو القاتل الحقيقي، الذي قتل بدم بارد جميع الأنا خاصته. وليست الأسباب سوى ضحايا بريئة من كل التهم التي وجهتها أناك لها . قتلت نفسك و أشرت بأصابع الاتهام نحو النسيان واليأس والكآبة وغيرهم ، وهم بريئون من ذلك كله. بدأت أخرى تقول نعم انت السبب في ذلك ، وأخرى توافقها، الى أن سقطوا جميعهم صرعى من جديد. وعاد ضباب الدم الأحمر، لكني هذه المرة لم أستطع السير مجددا، إذ لم أقو على الوقوف، أحسست بجسمي بارداً كالثلج. أرى يداي ممسكتان بخنجر فضي عطش مغروز وسط قلبي، حيث يروي عطشه من الدماء المتفجرة من قلبي. ربما كانت أناي محقة، ربما كنت انا السبب الحقيقي وراء ذلك، ربما ارتديت أقنعة اليأس والكآبة والحزن وقتلت نفسي، فظننت ان هذه الاسباب قتلتني، بينما كنت نهاية أخدع نفسي. ربما مع طول ارتدائي للأقنعة أنغمس معنى هذه الأقنعة في نفسي واتحد معها، حيث أصبحت أنا نفسي هي اليأس والكآبة والحزن، لكن وهل يهم ذلك كله؟ فمدينتي استحالت صحراء قاحلة، وسكانها الأنا تلون بدمائها الرمال وتحيلها من صفراء الى حمراء قانية، أسقط على الارض ، أنظر إلى أقدام قاتلي المنتصب واقفاً ، يداه ملطختين بدمي، بدمه، انظر بألم الى الأنا ، الى نفسي، التي ستقتل هي بدورها على يدي.

فاوست، تحفة غوته العظمى. هي حكاية شعبية كانت شائعة خصوصاً في ألمانيا، وعلى مر الأجيال كان يُضاف لهذه الحكاية بعض التفاصيل والمشاهد. كتبها كعمل أدبي كثيرون ، إلى أن أتى غوته مأخوذاً بهذه الحكاية، وأخذ على عاتقه ، إعادة كتابتها كنص مسرحي. ونجح في ذلك أيما نجاح. صنع من هذه الحكاية منحوتة فنية ، تبث الحياة فيمن يراها أو يقرأها ، حيث ينحني بعد ذلك إجلالاً واحتراماً لا لأجل المنحوتة فقط، بل ولأجل الناحت أيضا. لأن كتابة نص مسرحي، يعتبر من أصعب أنواع الكتابة الأدبية، لأنه يعتمد بشكل أساسي على بناء الحوارات، واستخدام لغة محكمة، عذبة، تشد المشاهد وتجعله مأخوذا بروعة المشهد. وهذا مانجح في فعله الشاعر العظيم يوهان فولفغانغ فون غوته.

فاوست ، الدكتور الحكيم، الذي ظل يسعى وراء العلم ، باحثا عن الرحيق الذي سيروي عطشه ، إلى أن وصل للقمة ، لكنه لم يقنع أبداً أبها، فكان يريد الذهاب فوق القمة، ومابعدها. هنا حيث تأخذ الأحداث مجراها، حيث يعقد مع الشيطان عقداً ، حيث يحصل فاوست على مايريد، ويحصل الشيطان في نهاية الأمر على روح فاوست. فاوست ، هو مثال الروح الساعية للكمال. الروح التي لا ترتوي أبداً ، تسعى وتسعى وتموت ساعية . نرى في هذه المأساة العظيمة ، مراحل نمو هذا المسعى ، من الملذات الدنيوية الى المثاليات . ما يميّز اسلوب غوته ، هو الاسلوب العذب ، واللغة الرائعة ، والوصف الذي يضعك في منتصف المشهد ، تلتفت يمينا فترى فاوست ويسارا فترى مفستوفيلس

. وينبغي الاشادة أيضاً ، بالمترجم العظيم عبد الرحمن بدوي ، في حفاظه على عذوبة الاسلوب حينما نقله الى العربية.

في صبيحة أحد الأيام ..

أخرج مجيباً نداءات الصباح لعملي المعتاد ، أجتاز الطرقات والأزقة نفسها ، الوجوه نفسها . لكن هناك رائحة مختلة ولون جديد وصوت عذب ، في مكان ما . تبعت الرائحة ، وكلما اشتدت قوة الرائحة اشتد معها صوتها وعمق لونها. وصلت للمركز فرأيت شابة تعزف على قيثارتها . مغمضة العينين ، وكأنها تؤدي شعيرة مقدسة ، أناملها المحمرة في أطرافها ، تتراقص على أوتار القيثارة ، والأوتار بدورها تستجيب لتلك النعومة والقيثارة تحكي هذا التناغم . اقتربت منها ، ووضعت حقيبتي على الارض ، وجلست بجانب الحقيبة ، استمع الى تلك الانغام ، استمع الى صوت الحياة والموت ، صوت الفرح والحزن ، الى تلك العواطف المبعثرة والتي تسير بإيقاع منتظم ، أحس بنفسي تسقط كل حصونها ودفاعاتها . فرغم كل حرب دخلتها ، سواء انتصرت فيها ام هزمت ، لم اتخلى ابداً عن دفاعاتي ، لكن امام غزو تلك الانغام لنفسي ، رأيتني أسقط دفاعاتي كلها .توقفت الفتاة بعد ضربة حزينة أخيرة على الاوتار ، ونظرت الي ونظرت انا بدوري اليها . كانت مبهورة الانفاس جراء رقص روحها مع الانغام ، كانت تبكي ، والفيتني انا ابكي وكلانا ينظر الى بكاء الآخر. كلانا فقد شيء عزيزٌ على قلبه ، ربما الفقد هو الشيء المشترك بيننا والذي جمعنا في هذه اللحظة. لكنها اختارت ان تترجم عواطفها بعزفها العذب الرقيق ، وانا اخترت أن أخبئ عواطفي خلف حصوني ودفاعاتي . وياعجباً ، أرى عذوبتها انتصرت على كتائبي فغزت مدينتي بقيثارة ، وفتحت حصوني واحدا تلو الآخر بآناملها الرقيقة التي تعلوها بعض الحمرة ، واقتحمت قصري بعواطفها الجياشة ودخلت غرفتي الحصينة ، وأمسكت برأسي تضمه الى صدرها بينما كنت أنشج وابكي بكاءاً حاراً . كم هو مؤلم ان تصبح بلا دفاعات ، انت تصبح مفضوحاً ، أن تحاول بيأس اخفاء ضعفك . أخذت تمسح على رأسي بأنغامها ، وتهدهدني ، إلى أن ألفتها وعشقت رائحتها وأبيت الانفصال عنها ، مريدا ان اتحد معها لنصبح واحداً . أيقضني من أحلامي تصفيق الجمهور بعدما انتهت فتاتي ، بينما كنا لانزال ننظر إلى أرواحنا المرهقة . نعم ، لأن كلانا حتماً فقد شيئا عزيزاً على قلبه.

الكوميديا الإلهية ..

المعجزة الأدبية العظمى ، صرح دانتي الذي خلّد تاريخ زهو النسر الذهبي الذي يرمز للإمبراطورية الرومانية وانحطاطه. وعمله الأعظم والذي يتمحور حول العدالة الإلهيـة .

لهذا العمل ثلاثة محاور أساسية ، تمثل أركان وملامح الكوميديا بكاملها. وهي

•الجحيم

، يرى دانتي نفسه تائها في غابة مظلمة ، والتي تمثل أولى حلقات الجحيم. ولإرشاده تذهب قديسة سيراكوزا لتخبر بياتريشي (محبوبة دانتي، والساكنة في الفردوس) عن سوء حال دانتي ، فتذهب الأخيرة مستنجدة بشاعر الرومان الأعظم، ڤيرجيليوس، فيقوم بإرشاد وحماية دانتي في هذه الرحلة . فيمران معاً بمختلف حلقات الجحيم، ويرون العاصين والذين تختلف درجاتهم على حسب حجم معصيتهم، الى الحلقة الأخيرة والتي يوجد بها لوسيڤر. رحلة مليئة بمشاهد الرعب والمسوخ والمآسي.

•المطهر

وفي هذا الركن ، تخف الشدة، وترتاح النفس لوصولها إلى هذا القسم. حيث العقاب مؤقت، ويعتبر مرحلة تمهيدية وتطهيرية للإرتقاء للفردوس. وهنا أيضاً يلتقي دانتي مع ڤيرجيليوس بمختلف الشخصيات، وتطرأ عليه مختلف التساؤلات والشكوك والتي يدحرها ويجاوب عنها ڤيرجيليوس. نهايةً يلتقون بصديق قديم ، كان هذا الأخير يكن عظيم الاحترام لفرجيليوس، فيصاحبهم. ومروراً بمختلف الأفاريز، يتطهر دانتي من الوسوم التي وسمها بها الملاك في بداية هذا الركن. إلى أن يلتقون ببياتريشي محبوبة الكاتب، التي ستصحبه للفردوس.فيرحل عندها ڤيرجيلويوس لكونه مات على الوثنية. ويعتبر مشهد رحيل ڤيرجيلويس من أحزن مشاهد الكوميديا (باالنسبة إلي).

•الفردوس

ومن خلال اصطحاب بياتريشي لدانتي ، في مختلف مرورا بالسموات العشرة، تفك له شفرات وألغاز الكون، وتدحض شكوكه المختلفة والمبنية على معرفة فلسفية سابقة عن كتّاب لم يبصروا النور الحق. ومع اجتياز كل سماء ومع دحض كل شك ، تقوى روح وبصر دانتي فيكون قادراً على احتمال النور والمتعة والتي تختلف شدتها في كل سماء. ونهاية يصل لسماء النور الخااص ، حيث يغمس عينيه في الجوهر غير المتناهي، ويصل الى أقصى حالة استشراقية.


عمل أدبي عظيم، ملحمة شعرية، تصف وتحكي وتناقش وتجادل وترثو وتهجو وتتحسر وتتأمل في أبيات ثلاثية . ويؤكد دانتي أن عمله ، هذا قابل لقراءات حرفية ورمزية وأمثولية. وما يجعل للعمل وزناً أدبياً إضافيًا ، هو أن الكاتب ، قد ارتقى بالعامية الإيطالية والتي كانت دارجة يومذاك، إلى الفصاحة والكلاسيكية الشعرية.


شكر وامتنان كبير للمترجم (كاظم جهاد) والذي ترجم العمل كاملاً وزوده بحواشي مليئة بالشروحات القراءات المختلفة، والتعريف بمختلف الشخصيات وعلاقتها بالسياق. وشكرٌ خاص لجاكلين ريسيه، والتي ساهمت ساعدت وكانت ذات يد عون لعمل كاظم جهاد.

رواية الحرب والسلم لــ”ليو تولستويعمل أدبي ضخم المقياس، غني المحتوى، ، يطوف بين أزقة ودهاليز هذا الع

رواية الحرب والسلم لــ”ليو تولستوي

عمل أدبي ضخم المقياس، غني المحتوى، ، يطوف بين أزقة ودهاليز هذا العمل العظيم ، البحث عن أسرار .ومعاني الحياة الحقيقة. في معنى حب الوطن، والشرف والحب. يصور الكاتب الحياة الارستقراطية في روسيا في بداية القرن التاسع عشر، 

ويتتبع تطور الشخصيات ونضوجها ، وتغير أبعاد تفكيرها، خلال الحرب بين روسيا وفرنسا وأيضا خلال الغزو .الفرنسي لروسيا. فترى الكاتب يبحث في معنى الحرب،معنى الحياة، وسر الموت الرهيب والبحث عن الله سبحانه.وكل ذلك يطوف في ثنايا هذا العمل الانساني الرفيع

رواية عظيمة، خلدت كاتبها، وجعلت اسمه لامعا في لائحة عظماء الادب .


Post link
قومٌ إذا نُودُوا لِدَفْع مُلِمَّة .. والخيلُ بين مُدَعَّس وَمُكَرْدَسِ.. لَبسوا القُلُوبَ على الدروع

قومٌ إذا نُودُوا لِدَفْع مُلِمَّة ..
والخيلُ بين مُدَعَّس وَمُكَرْدَسِ..
لَبسوا القُلُوبَ على الدروعِ وأقبلوا ..
يَتَهَافتون على ذَهَابِ الأَنْفُسِ..
_________________________________________________


Post link

مَـلحمة القرن العشِرين ، العمل الأدبي الأعظم والأكثر تعقيداً ، ذات المفاهيم والمعاني والتلميحات المستغلقة . واحدة من أهم الأعمال وأعقدها في الأدب الحداثي ، رواية طويلة تحكي سير حياة يوم شخص طبيعي يسمى بلوم .الذي يميزُ الرواية ، أن بها تجتمع سمفونيات الحياة ، من أدب ، وتأريخ ، فلسفة ، سياسة ، فن ، طب ، رسم ،صحافة ، اجتماع . وكل فصل من فصولها يتميز بأسلوب نثري مختلف . فبعضها يحاكي أساليب الكتّاب القدماء ، وبعضها الآخر يتميز بأسلوب يسمّى تيار الوعي . وهو الأسلوب الذي اعطى الرواية شعلة الشهرة . وهي كتابة مايدور في وعي الشخصية من تعقيد الأفكار وتشابكها وأمواج الخيال ، وكل ذبك يحدث بينما تسير الشخصية بين الطرقات

لفهم الرواية وفك رموزها ، يتوفر معها كتيب ، مليء بشرح الجمل والتشبيهات المستغلقة .

“قراءة الرواية هُـو تَحدّي بحد ذاته”

و العنصر المثير فيها ، هو أنّـه لقرائتها ، يجب أن نخصص وقتا كاملا لإنقطاع لها . لابد من التعامل معها كمركبات أدوية ، الإكثار منها قد يؤدي إلى عطبك . قراءة مقطع التأمل فيه وفي أبعاده وعدم الانتقال الى المقطع الاخر من دون التأكد من فهم المقطع الاول .

وحيـد ..وسط قلعتي المهجورة ، محاطاً بالصمت ، بالسكون ، محاطاً بالخيبة .أدخل يدي في جيبي ، أنظر إ

وحيـد ..
وسط قلعتي المهجورة ، محاطاً بالصمت ، بالسكون ، محاطاً بالخيبة .
أدخل يدي في جيبي ، أنظر إلى صورنا معاً ، وقد أكلها النسيان وأتلفها ، أتأمّل جراحات الحرب ، التي نزفت كل دمّي ، أتأمل ندوب الزمان التي لازالت تنزف ذكرى مؤلمة .
كل شيء حولي بلا روح ، ميّت ، بلا أثر ، منسي ، وقريباً سأصبح غباراً تحمله رياح الزمان ، اسماً بين سطور النسيان ، شعراً بين فصول ملحمة العدم .
لم يعد لدي اكثير من الوقت ، أرى قلعتي تتهادى ، تتلاشى ، إحسّ بنفَسِـي يهدأ ، ونبضي يتباطأ، فقدت كل شيء ، فقدت اسمك ، فقدت صوتك ، عبقك ، وكان اشدها إيلاماً هو فقداني صورتك .


Post link
أنتِ لستِ لي ..ولكنّي أحبك ..مازلتُ أحبك .. وحنيني إليك يقتِلنِي ..وكرامتي تمنعنيوكلّ شيء يح

أنتِ لستِ لي ..
ولكنّي أحبك ..
مازلتُ أحبك ..
وحنيني إليك يقتِلنِي ..
وكرامتي تمنعني
وكلّ شيء يحول بيني وبينك
________________________________
(محمود درويش)


Post link
دون كيخوته ..رائعة من روائع الأدب العالمي ، بل إنها تُعتبر من قبل كثير من النقاد على أنها “أ

دون كيخوته ..
رائعة من روائع الأدب العالمي ، بل إنها تُعتبر من قبل كثير من النقاد على أنها “أفضل عمل أدبي كُتِب قبل أي وقت مضى”. رائعة مفعمه بالمشاعر والأحاسيس ، تلعب فيها العاطفة دور المايسترو على المسرح . تحُـوم فِي أرجاء هذا الصرح الأدبي سمات أنسانية. هي تجسيد للمبادئ والقيم الأخلاقية العالية وصدامها مع الجانب الواقعي . ومن هنا كان هذا الديالكتيك ، أي الجدل والمحاورة المبنية على وجود المنطق بين الفارس “دون كيخوته” الذي يمثل القيم المجردة والمبادئ وحامل سلاحه “سنشو بنثا” الذي بدوره يمثل الواقع المجرد . ومن جدالهما ينشأ ديالكتيك الوجود .


Post link
لأني لا أستطيع …لأنّـي لا أسْتَطيع الوُصول إليك . لأنّ كلمَاتي هي الخيط الذي يربطني بك . لذ

لأني لا أستطيع …
لأنّـي لا أسْتَطيع الوُصول إليك . لأنّ كلمَاتي هي الخيط الذي يربطني بك . لذا أَخذتُ عهداً على نَفسِي أن أكون سَيّد حرفي . أن أتقن لغة الوَصل بينَنا . حرِصتُ كثيراً أن تَكون كَلماتي في أبهى حلّـة. أن يكونَ ًخَيالي في أخصَب حالة . أن تكون أفكاري بأدْفأ لون . فِي كلّ ليلة أنظر إلى النجوم ، أبحث عن أجْوبة . لكِن سمائي خالية . كنت أنظر إلى نجوم خيَالي ، فأراك وأرَى أحرفنا تتراقص أمام أعيننا . خيالي ، هُو مايُبقيني حيّ ، فلطالما جسّد قِصصنا معاً ، لطَالما رسمنا معاً تملؤنا الضَحكات . أغمض عينِي هرباً من واقعي المَرير ، إلى خيالي الخصب . وبيدي أوراقي التي نقشْت عليها أحرفي . أوراقي التي لن تَصل ، أفْكاري التي لن تقرأ .
الحياة تُسحب مني . بقائي حيّاً لن يطول . أحرفِي تتلاشى ، أوراقي تتآكل ، تتطاير ، تتبعثر تنتشر . تعلق ورقـة بكتفي . ألتقطها ، فلقد كانت الوحيدة التي لم يمسّها الضرر . قرأت ماكُتب فيها ، وبدأت الرؤية تصْبح مشوشة . أدمعي تتساقط ، أدمعي تشوه ترتيب الكِلمات. الحرارة تعود ، والطوفان يسحبني لمدن الغرق والنسيان. يسحبني لقاعه لأكون منسياً كأتلانتيس.
أتعلمين ماكتب على تلك الورقة؟

لـن نفترق ، لكننَا لن نلتقي أبداً .


Post link
loading